أيمن شاكر يكتب : قلوب من زجاج وأرواح من نور : لماذا يصنع الألم أرقّ النفوس ؟



بقلم الكاتب الصحفى أيمن شاكر 

رئيس قسم الأدب ✍🏻 


تلمسنا أحياناً لقاءاتٌ بأناسٍ يلفّهم هالة من الأدب الرفيع، لطفٍ نادر، ورحمةٍ لا تتزعزع. ننظر إلى تهذيبهم الفطري، واحترامهم العميق للآخرين، فيُخيّل إلينا أنهم نُسجوا من قماشةٍ مختلفة. لكن خلف هذا الجمال الأخلاقي الوهّاج، غالباً ما تكمن حقيقة مؤلمة: فهذه النفوس المهذبة، على عكس الظاهر، تحمل في أعماقها جراحاً غائرة وحساسية مفرطة تجعلها تشعر بثقل العالم كله.


إنهم ليسوا مجرد "أشخاص لطيفين". هم كائناتٌ تتمتع بهوائيات روحية دقيقة ، تلتقط ذبذبات الألم والظلم والقسوة في المحيط من حولهم بحدّةٍ تفوق غيرهم. كلمة جارحة تمرّ مرور الكرام على الآخرين، قد تكون لديهم طعنة نافذة.

نظرة ازدراء عابرة، قد تُشعل في داخلهُم عاصفة من الأسى. هذا الإحساس المفرط بالعالم وبآلامه وآلامهم الذاتية ، هو السّمة الخفية التي تُميّزهم. إنها نعمة ونقمة في آنٍ : نعمة تمنحهم عمقاً استثنائياً في فهم البشر وتجارب الوجود، ونقمة تُعرّضهم لوابلٍ مستمرّ من المشاعر التي قد تُهلك الروح الأقل حساسية.


وهنا يكمن سرّ جمالهم المذهل : "تهذيب الوجع". فهم لا يسمحون للألم الذي يعتصرهم سواء أكان نابعاً من تجاربهم الخاصة ، أم من إحساسهم الفياض بمعاناة الآخرين أن يحوّلهم إلى قساة أو منعزلين أو ساخطين . بدلاً من أن يُقسّي القلب أو يُمرّض الروح ، يصبح هذا الألم مادة خام لتحويلٍ عجيب . إنهم يمارسون فناً وجودياً رفيعاً : تحويل شظايا المعاناة إلى فسيفساء من التعاطف واللطف والجمال الأخلاقي.


* يستخرجون من مرارة الإساءة ، رحيق التعاطف : لأنهم ذاقوا طعم الجرح، صاروا حريصين على ألا يجرحوا أحداً. إحساسهم بآلامهم يجعلهم أكثر قدرة على تخيل آلام غيرهم، فيتحولون إلى ملاذٍ للقلوب المنكسرة.


* يبنون من أنقاض خيباتهم، جسوراً من الفهم : بدلاً من الانكفاء وراء أسوار العزلة التي قد يفرضها عليهم إحساسهم المرهف، يختارون بناء جسور التواصل. يعرفون قيمة الكلمة الطيبة، لأنهم اختبروا وقع الكلمة القاسية.


* يتخذون من الأدب درعاً واقياً ضد فوضى العالم : في عالمٍ يزداد خشونةً، يصرّون على النعومة. في وسط الضجيج والصراخ، يلتزمون الهدوء والاحترام. لياقتهم ليست ضعفاً، بل هي قوة هادئة تنبع من إدراكهم الثمين لثقل الوجع وأهمية أن يكونوا مصدر راحة لا مصدر أذى.


إنه اختيار بطولي يومي . فهم يرفضون أن يكون رد فعلهم على الظلام الذي لمسوه هو مزيد من الظلام. يرفضون أن يحوّلهم الألم إلى نسخٍ من مصدر أذاهم. بدلاً من ذلك، يختارون أن يكونوا نقيض الألم الذي عرفوه . لقد اختبروا القسوة، فالتزموا اللطف. ذاقوا مرارة الجفاء، فأخلصوا للدفء الإنساني. عانوا الوحدة، فصانوا روابط المحبة. هذا التحول ليس تلقائياً ، إنه صراع داخلي مستمر ، عملية "تهذيب" تتطلب وعياً عميقاً وشجاعةً نادرة لتحويل طاقة الألم المدمرة إلى طاقة إبداع أخلاقي.


لا يعني هذا أن كل من يعاني يصبح بالضرورة "ملاكاً رحيماً". فالمعاناة قد تولّد الحقد والانغلاق والأنانية. الفارق الجوهري يكمن في فعل الاختيار الواعى ، اختيار التهذيب . إنه الفرق بين أن تنكسر تحت وطأة الألم، وبين أن تستخدم حرارة ذلك الألم لتصنع من روحك بلورةً تتلألأ بأنقى أنوار الإنسانية.

فهم لا يهربون من ألمهم ، بل يحتضنونه ويصهرونه في بوتقة الروح ليُنتجوا منه ذهب الرحمة.


هؤلاء الحُسّاس المرهفون، المهذبون رغم الجروح، هم كنوز إنسانية نادرة ، وجودهم تذكيرٌ ملهِم بأن الجمال الحقيقي ليس براءةً ساذجة ، بل هو عمقٌ متألقٌ نابعٌ من اختبار الظلمة واختيار النور . هم شموع تضيء دروبنا ليس لأنها لم تعرف العتمة، بل لأنها، بعد أن احترقت من الداخل بلهيب المعاناة ، اختارت أن تشع .


فاحترس من كسر تلك القلوب الشفافة التي تحمل بين ضلوعها هشاشة الزجاج وقوة الماس. احترم جراحها الصامتة، لأنها مصدر جمالها الفريد. ففي عالمٍ يصرخ بالقسوة، هم من يحوّلون صرخاتهم الداخلية إلى سيمفونيات من الوداعة، ودموعهم الخفية إلى أنهارٍ من الإحسان، وأوجاعهم المستعرة إلى شموع تضيء دروب الظلام للجميع. لأنهم، ببساطة، اختاروا أن يقدموا للعالم وردةً، وهم يعلمون كم يحملون من شوكٍ في قلوبهم .


سنلتقى إن كان فى العمر بقيه 

إرسال تعليق

أحدث أقدم